سورة الفرقان - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الفرقان)


        


{تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6) وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10)}
{تَبَارَكَ} تفاعل، من البركة، عن ابن عباس، كأنّ معناه: جاء بكل بركة، دليله قول الحسن: تجيء البركة من قبله، الضحّاك: تعظّم، الخليل: تمجّد، وأصل البركة النّماء والزيادة.
وقال المحققون: معنى هذه الصفة ثبتَ ودام بما لم يزل ولا يزال، وأصل البركة الثبوت يقال: برك الطير على الماء وبرك البعير، ويقال: تبارك الله ولا يقال لله متبارك أو مبارك لأنّه ينتهى في صفاته وأسمائه إلى حيث ورد التوقيف.
{الذي نَزَّلَ الفرقان} القرآن {على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ} الجنّ والإنس {نَذِيراً}.
قال بعضهم: النذير هو القرآن، وقيل: هو محمد.
{الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} ممّا يطلق له صفة المخلوق {فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} فسوّاه وهيّأه لما يصلح له، فلا خلل فيه ولا تفاوت.
{واتخذوا} يعني عبدة الأوثان {مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً * وَقَالَ الذين كفروا} يعني النضر بن الحرث واصحابه {إِنْ هذا} ما هذا القرآن {إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} اختلقه محمد {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ} يعني اليهود عن مجاهد، وقال الحسن بن عبيد بن الحضر: الحبشي الكاهن، وقيل: جبر ويسار وعدّاس مولى حويطب بن عبد العزى، قال الله سبحانه وتعالى {فَقَدْ جَآءُوا} يعني ما يلي هذه المقالة {ظُلْماً وَزُوراً} بنسبتهم كلام الله سبحانه إلى الإفك والافتراء {وقالوا} أيضاً {أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ} تُقرأ عليه {بُكْرَةً وَأَصِيلاً}.
ثمَّ قال سبحانه وتعالى ردّاً عليهم وتكذيباً لهم {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول} يعنون محمّداً صلى الله عليه وسلم {يَأْكُلُ الطعام} كما نأكل {وَيَمْشِي فِي الأسواق} يلتمس المعاش {لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ} يصدّقه {فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً} داعياً {أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ} ينفقه فلا يحتاج إلى التصرّف في طلب المعاش. {أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ} بستان {يَأْكُلُ مِنْهَا} هو، هذه قراءة العامة، وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالنون أي نأكل نحن.
{وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} نزلت هذه الآية في قصة ابن أبي أُميّة وقد مرّ ذكرها في بني إسرائيل.
{انظر} يامحمد {كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} إلى الهدى ومخرجاً من الضلالة فأخبر الله أنّهم متمسّكون بالجهل والضلال عادلون عن الرشد والصواب وهم مع ذلك كانوا مكلّفين بقبول الحق فثبت أنّ الاستطاعة التي بها الضلال غير الاستطاعة التي يحصل بها الهدى والإيمان.
{تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك} أي ممّا قالوا، عن مجاهد، وروى عكرمة عن ابن عباس قال: يعني خيراً من المشي في الأسواق والتماس المعاش، ثمَّ بيّن ذلك الخير ما هو فقال سبحانه وتعالى {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} أي بيوتاً مشيّدة، وسُمّي قصراً لأنّه قُصر أي حُبس ومُنع من الوصول إليه.
واختلف القرّاء في قوله: {وَيَجْعَل} فرفع لامه ابن كثير وابن عامر وعاصم برواية أبي بكر والمفضل، وجزمهُ الآخرون على محلّ الجزاء في: قوله إن شاء جعل.
أخبرنا أبو عمرو أحمد بن أبي أحمد بن حمدون النيسابوري قال: أخبرنا عبد الله بن محمد بن يعقوب البخاري قال: حدّثنا محمد بن حميد بن فروة البخاري قال: حدّثنا أبو حذيفة إسحاق بن بشر البخاري قال: حدّثنا جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما عيّر المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفاقة فقالوا: ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، حزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك ونزل عليه جبرئيل من عند ربه معزّياً له فقال: السلام عليك يا رسول الله، ربّ العزة يقرئك السلام ويقول لك: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلاّ أنّهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} ويتّبعون المعاش في الدنيا.
قال: فبينما جبرئيل عليه السلام والنبي صلى الله عليه وسلم يتحدّثان إذ ذاب جبرئيل حتى صار مثل الهردة، قيل: يا رسول الله وما الهردة؟ قال: «العدسة» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا جبرئيل مالك ذبت حتى صرت مثل الهردة؟»قال: يا محمد فتح باب من أبواب السماء لم يكن فتح قبل ذلك، فتحوّل الملك وأنّه إذا فُتح باب من السماء لم يكن فُتح قبل ذلك فتحوّل الملك، إمّا ان يكون رحمة أو عذاباً وإنّي أخاف أن يعذب قومك عند تعييرهم إياك بالفاقة، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم وجبرئيل عليه السلام يبكيان إذ عاد جبرئيل فقال: يا محمد أبشر، هذا رضوان خازن الجنة قد أتاك بالرضى من ربّك، فأقبل رضوان حتى سلّم، ثم قال: يا محمد، ربّ العزة يقرئك السلام ومعه سفط من نور يتلألأ ويقول لك ربّك: هذه مفاتيح خزائن الدنيا مع ما لا ينتقص لك مما عندي في الآخرة مثل جناح بعوضة، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبرئيل عليه السلام كالمستشير له فضرب جبرئيل بيده الأرض وقال: تواضع لله. فقال: «يا رضوان لا حاجة لي فيها، الفقر أحبّ اليّ، وأن أكون عبداً صابراً شكوراً» فقال رضوان: أصبت أصاب الله بك.
وجاء نداء من السماء فرفع جبرئيل رأسه فإذا السموات قد فتحت أبوابها إلى العرش، وأوحى الله سبحانه وتعالى إلى جنة عدن أن تدلي غصناً من أغصانها عليه عذق عليه غرفة من زبرجدة خضراء لها سبعون ألف من ياقوتة حمراء، فقال جبرئيل: يا محمد ارفع بصرك فرفع فرأى منازل الأنبياء وغرفهم وإذا منازله فوق منازل الأنبياء فضلاً له خاصة ومناد ينادي: أرضيت يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «رضيت، فاجعل ما اردت أن تعطيني في الدنيا ذخيرة عندك في الشفاعة يوم القيامة».
ويروون أنّ هذه الآية أنزلها رضوان {تبارك الذي ان شاء جعل لك خيراً من ذلك جنات تجري من تحتها الأنهار ويجعل لك قصوراً}.


{بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14) قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19) وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)}
{بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً} أي غلياناً وفوراناً كالغضبان إذا غلا صدره من الغضب {وَزَفِيرًا} ومعنى قوله: سمعوا لها تغيّظاً أي صوت التغيّظ من التلهّب والتوقّد، وقال قطرب: التغيظ لا يُسمع وإنّما المعنى: رأوا لها تغيّظاً وسمعوا لها زفيراً. قال الشاعر:
ورأيت زوجك في الوغى *** متقلّداً سيفاً ورمحا
أي حاملاً رمحاً.
أخبرني أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا أبو جعفر بن أبي شيبة قال: حدّثني عمي أبو بكر قال: حدّثنا محمد بن يزيد عن الأصبغ بن زيد الورّاق عن خالد بن كثير عن خالد بن دريك عن رجل من أصحاب رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن كذب عليّ متعمّداً فليتبّوأ بين عينَي جهنم مقعداً فقال: يا رسول الله وهل لها من عينين؟ قال: نعم ألم تسمع إلى قول الله سبحانه {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً}».
{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} قال ابن عباس: يضيق عليهم كما يضيق الزجّ في الرمح.
وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدّثنا الفضل بن الفضل الكندي قال: حدّثنا عبد الرَّحْمن بن أبي حاتم قال: قرئ على يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني نافع عن يحيى بن أبي أسيد يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّه سئل عن قول الله سبحانه {وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} {مُّقَرَّنِينَ} قال: «والذي نفسي بيده إنّهم يستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط، مقرّنين مصفّدين، قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم في الأغلال». ومنه قيل للحبل قَرنٌ، وقيل: مع الشياطين في السلاسل والأغلال.
{دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} ويلاً عن ابن عباس، هلاكاً عن الضحّاك.
روى حمّاد عن علي بن زيد عن أنس بن مالك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أوّل من يُكسى حُلّة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من خلفه وهو يقول: يا ثبوره وهم ينادون ياثبورهم حتى يُصَفّوا على النار فيقال لهم {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً (*) قُلْ أذلك} الذي ذكرت من صفة النار وأهلها {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وُعِدَ المتقون كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً * لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ خَالِدِينَ كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً} وذلك أنَّ المؤمنين سألوا ربّهم ذلك في الدنيا حين قالوا {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] فقال الله سبحانه كان إعطاء الله المؤمنين جنة الخلد وعداً وعدهم على طاعته إيّاه في الدنيا ومسألتهم إيّاه ذلك.».
وقال بعض أهل العربية: يعني وعداً واجباً وذلك أنّ المسؤول واجب وإن لم يُسئل كالَّذين قال: ونظير ذلك قول: العرب لأُعطينّك ألفاً وعداً مسؤولاً بمعنى أنه واجب لك فتسأله.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أبو علي بن حنش المقري قال: حدّثنا أبو القاسم بن الفضل المقري قال: حدّثنا علي بن الحسين قال: حدّثنا جعفر بن مسافر قال: حدّثنا يحيى بن حسان قال: حدّثنا رشد بن عمرو بن الحرث، عن محمد بن كعب القرظي في قوله سبحانه وتعالى {كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً}.
قال: الملائكة تسأل لهم ذلك قولهم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8].
{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} بالياء أبو جعفر وابن كثير ويعقوب وأيوب وأبو عبيد وأبو حاتم وحفص، والباقون بالنون {وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} من الملائكة والإنس والجنّ عن مجاهد، وقال عكرمة والضحّاك: يعني الأصنام. {فَيَقُولُ} بالنون ابن عامر، غيره: بالياء، لهؤلاء المعبودين من دون الله {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل (*) قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} أي ما كان ينبغي لنا أن نوالي أعداءك بل أنت وليّنا من دونهم، وقرأ الحسن وأبو جعفر: أن نُتَّخذ بضم النون وفتح الخاء.
قال أبو عبيد: هذا لا يجوز لأنَّ الله سبحانه ذكر {مِنْ} مرّتين، ولو كان كما قالوا لقال: أن نتّخذ من دونك أولياء. وقال غيرهُ: {مِنْ} الثاني صِلة.
{ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ} في الدنيا بالصحة والنعمة {حتى نَسُواْ الذكر} أي تركوا القرآن فلم يعملوا بما فيه، وقيل: الرسول، وقيل: الإسلام، وقيل: التوحيد، وقيل: ذكر الله سبحانه وتعالى.
{وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أي هلكى قد غلب عليهم الشقاية والخذلان، وقال الحسن وابن زيد: البور: الذي ليس فيه من الخير شيء، قال أبو عبيد: وأصله من البوار وهو الكساد والفساد ومنه بوار الأيم وبوار السلعة، وهو اسم مصدر كالزور يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع والمؤنث والمذكر. قال ابن الزبعرى:
يا رسول المليك إنّ لساني *** راتق ما فتقت إذ أنا بُور
وقيل: هو جمع البائر، ويقال: أصبحت منازلهم بوراً أي خالية لا شيء فيها، فيقول الله سبحانه لهم عند تبرّي المعبودين منهم {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ} أنّهم كانوا آلهة {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ} قرأه العامة بالياء يعني الآلهة، وقرأ حفص بالتاء يعني العابدين {صَرْفاً وَلاَ نَصْراً} أي صرف العذاب عنهم ولا نصر أنفسهم.
وقال يونس: الصرف: الحيلة ومنه قول العرب: إنه ليتصرف أي يحتال.
وقال الأصمعي: الصرف: التوبة والعدل: الفدية.
{وَمَن يَظْلِم} أي يشرك {مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً * وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} يا محمد {مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ} قال أهل المعاني: إلاّ قيل أنّهم {لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} دليله قوله سبحانه: {مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ} [فصلت: 43] وقيل: معناه إلاّ من أنّهم، وهذا جواب لقول المشركين {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7].
{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} فالمريض فتنة للصحيح، والمبتلى فتنة للمعافى، والفقير فتنة للغني، فيقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنيّاً مثل فلان، وقال ابن عباس: إنّي جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم وترون من خلافهم وتتبعوا الهدى بغير أن أُعطيهم عليه الدنيا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رُسلي فلا يخالفون لفعلت، ولكن قدّرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم.
أخبرنا أبو القاسم عبد الخالق بن علي قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن يوسف ببخارى قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن جمعان قال: حدّثنا محمد بن موسى قال: حدّثنا القاسم بن يحيى عن الحسن بن دينار عن الحسن عن أبي الدرداء أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ويل للعالم من الجاهل، ويل للجاهل من العالم، وويل للمالك من المملوك، وويل للمملوك من المالك، وويل للشديد من الضعيف، وويل للضعيف من الشديد، وويل للسلطان من الرعية، وويل للرعية من السلطان، بعضهم لبعض فتنة فهو قوله سبحانه {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً}».
{أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} قال مقاتل: نزلت هذه الآية في أبي جهل والوليد بن عقبة والعاص بن وائل والنضر بن الحرث وذلك أنّهم لما رأوا أبا ذر وابن مسعود وعمار وبلالا وصهيباً وعامر بن فهيرة ومهجع مولى عمر وجبر غلام ابن الحضرمي ودونهم قالوا: أنُسلم فنكون مثل هؤلاء فانزل الله سبحانه يخاطب هؤلاء المؤمنين {أَتَصْبِرُونَ} يعني على هذه الحال من الشدّة والفقر، وكان ربك بصيراً بمن يصبر ويجزع، وبمن يؤمن وبمن لا يؤمن.


{وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29) وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)}
{وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} فتخبرنا أنَّ محمداً صادق محقّ {أَوْ نرى رَبَّنَا} فيخبرنا بذلك نظيرها قوله سبحانه {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} [الإسراء: 90] إلى قوله: {والملائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 92].
قال الله تعالى {لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ} بهذه المقالة {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} قال مقاتل: غلوّاً في القول، والعتو: أشدّ الكفر وأفحش الظلم.
{يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} عند الموت وفي القيامة {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} للكافرين {وَيَقُولُونَ} يعني الملائكة للمجرمين {حِجْراً مَّحْجُوراً} أي حراماً محرماً عليكم البشرى بخير، وقيل: حرام عليكم الجنة، وقال بعضهم: هذا قول الكفار للملائكة، قال ابن جريج: كانت العرب إذا نزلت بهم شديدة أو رأوا ما يكرهون قالوا: حجراً محجوراً، فقالوا حين عاينوا الملائكة هذا، وقال مجاهد: يعني عوذاً معاذاً، يستعيذون من الملائكة.
{وَقَدِمْنَآ} وعمدنا {إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} باطلاً لا ثواب له لأنّهم لم يعملوه لله سبحانه وإنّما عملوه للشيطان، واختلف المفسّرون في الهباء فقال بعضهم: هو الذي يرى في الكوى من شعاع الشمس كالغبار ولا يُمسّ بالأيدي ولا يُرى في الظلّ، وهو قول الحسن وعكرمة ومجاهد.
وقال قتادة وسعيد بن جبير: هو ما تسفيه الرياح وتذريه من التراب وحطام الشجر، وهي رواية عطاء الخراساني عن ابن عباس، وقال ابن زيد: هو الغبار، والوالبي عن ابن عباس: هو الماء المهراق، مقاتل: ما يسطع من حوافر الدواب، والمنثور: المتفرق.
{أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} من هؤلاء المشركين المتكبرين المفتخرين بأموالهم {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} موضع قائلة وهذا على التقدير، قال المفسرون: يعني أنّ أهل الجنة لا يمر بهم في الآخرة إلاّ قدر ميقات النهار من أولّه إلى وقت القائلة حتى يسكنوا مساكنهم في الجنة.
قال ابن مسعود: لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء في الجنة وهؤلاء في النار وقرأ: ثم ان مقيلهم لاَلى الجحيم، هكذا كان يقرأها، وقال ابن عباس في هذه الآية: الحساب من ذلك اليوم في أولّه، وقال القوم حين قالوا في منازلهم في الجنة.
وروى ابن وهب عن عمرو بن الحرث أنّ سعيداً الصوّاف أو الصراف حدّثه أنّه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس وأنّهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من الناس، وقرأ هذه الآية.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} قرأ أبو عمر وأهل الكوفة بتخفيف الشين على الحذف والتخفيف ههنا وفي سورة ق، وقرأ الآخرون بالتشديد فيهما على معنى تنشق السماء بالغمام أي عن الغمام، والباء وعن يتعاقبان كما يقال: رميت عن القوس وبالقوس بمعنى واحد.
وقال المفسّرون: وهو غمام أبيض رقيق مثل الضبابة ولم يكن لبني إسرائيل في تيههم، وهو الذي قال الله سبحانه وتعالى {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة}.
{وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} هكذا قراءة العامة، وقرأ ابن كثير ونُنزل بنونين الملائكة نصبٌ {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} خالصاً وبطلت ممالك غيره {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً} صعباً شديداً نظيرها قوله سبحانه {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 9-10] والخطاب يدلّ على أنّه على المؤمنين يسير.
وفي الحديث: إنّه ليهوّن يوم القيامة على المؤمن حتى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة صلاّها في دار الدنيا.
{وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} الآية. نزلت في عقبة بن أبي معيط وأُبي بن خلف وكانا متحابّين وذلك أنّ عقبة كان لا يقدم من سفر إلاّ صنع طعاماً فدعا إليه أشراف قومه وكان يكثر مجالسة النبي صلى الله عليه وسلم فقدم من سفره ذات يوم فصنع طعاماً فدعا الناس ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طعامه، فلمّا قرّب الطعام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بآكل من طعامك حتى تشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله» فقال عقبة: أشهد أن لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، فأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من طعامه وكان أُبىّ بن خلف غائباً، فلمّا أُخبر بالقصة قال: صبأت يا عقبة: قال: لا والله ما أصبأت ولكن دخل عليّ رجل فأبى أن يطعم من طعامي ألاّ أن أشهد له فاستحييت أن يخرج من بيتي ولم يطعم، فشهدت له فطعم.
فقال أُبَىّ: ما أنا بالذي أرضى منك أبداً إلاّ أن تأتيه فتبزق في وجهه وتطأ عنقه، ففعل ذلك عقبة وأخد رحم دابّة فألقاها بين كتفيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا ألقاك خارجاً من مكّة إلاّ علوت رأسك بالسيف». فقُتل عقبة يوم بدر صبراً، وأما أُبىّ بن خلف فقتله النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم أُحد في المنابزة، وأنزل الله فيهما هذه الآية.
وقال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد بزاقه في وجهه وانشعب شعبتين فأحرق خدّيه، فكان أثر ذلك فيه حتّى الموت.
وروى عطاء الخراساني عن ابن عباس قال: كان أُبي بن خلف يحضر النبي صلى الله عليه وسلم ويجالسه ويسمع إلى كلامه من غير أن يؤمن له فزجره عقبة بن أبي معيط عن ذلك، فنزلت هذه الآية، وقال الشعبي: كان عقبة بن أبي معيط خليلاً لأُميّة بن خلف فأسلم عقبة فقال أُميّة: وجهي من وجهك حرام إن بايعت محمداً، فكفر وارتدّ لرضا أُميّة فأنزل الله سبحانه {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} يعني الكافر عقبة بن أبي معيط لأجل طاعة خليله الذي صَدَّهُ عن سبيل ربّه {يَقُولُ ياليتني} وفتح تاءه أبو عمرو {اتخذت مَعَ الرسول} محمد صلى الله عليه وسلم {سَبِيلاً * ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً} يعني أُبي بن خلف الجمحي {لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر} يعني القرآن والرسول {بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي وَكَانَ الشيطان} وهو كلّ متمرّد عات من الجانّ، وكلّ من صدَّ عن سبيل الله وأُطيع في معصيته فهو شيطان {لِلإِنْسَانِ خَذُولاً} عند نزول البلاء والعذاب به.
وحكم هذه الآيات عامّ في كلّ متحابّين اجتمعا على معصية الله، لذلك قال بعض العلماء: أنشدنيه أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر قال: أنشدني أبو محمد عبد الله بن أحمد بن الصديق قال: أنشدنا أبو وائلة عبد الرحمن بن الحسين:
تجنّبْ قرين السوء واصرم حباله *** فإن لم تجد عنه محيصاً فداره
وأحبب حبيب الصدق واحذر مراءه *** تنل منه صفو الودّ ما لم تماره
وفي الشيب ما ينهى الحليم عن الصبا *** إذا اشتعلت نيرانه في عذاره
وأنشدني أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدني أبو بكر محمد بن عبد الله الحامدي:
اصحبْ خيار الناس حيث لقيتهم *** خير الصحابة من يكون عفيفاً
والناس مثل دراهم ميزّتها *** فوجدت فيها فضّة وزيوفا
وأخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن جعفر المفسّر قال: حدّثنا أبو سعيد عبد الرَّحْمن ابن محمد بن حسكا قال: حدّثنا عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدّثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال: حدّثنا عبد الواحد بن زياد قال: حدّثنا عاصم عن أبي كبشة قال: سمعت أبا موسى يقول على المنبر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مثل الجليس الصالح مثل العطار إنْ لم ينلك يعبقُ بك من ريحه، ومثل الجليس السوء مثل القين إنْ لم يحرق ثيابك يعبق بك من ريحه».
وحدَّثنا أبو القاسم بن حبيب لفظاً سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة قال: أخبرنا أبو حاتم محمد ابن حيان بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن أبي علي الخلادي قال: حدّثنا عبد الله بن الصقر السكري قال: حدّثنا وهب بن محمد النباتي قال: سمعت الحرث بن وجيه يقول: سمعت مالك ابن دينار يقول: إنك إن تنقل الحجارة مع الأبرار خير من أن تأكل الخبيص مع الفجّار.
{وَقَالَ الرسول} يعني ويقول الرسول في ذلك اليوم {يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً} أي قالوا فيه غير الحق فزعموا أنّه سحر وشعر وسمر من الهجر، وهو القول السيّئ، عن النخعي ومجاهد.
وقال الآخرون: هو من الهجران أي أعرضوا عنه وتركوه فلم يؤمنوا به ولم يعملوا بما فيه.
أخبرنا أبو الطيب الربيع بن محمد الحاتمي وأبو نصر محمد بن علي بن الفضل الخزاعي قالا: حدّثنا أبو الحسن علي بن محمد بن عقبة الشيباني قال: حدّثنا أبو القاسم الخضر بن أبان القرشي قال: حدّثنا أبو هدية إبراهيم بن هدية قال: حدّثنا أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن تعلّم القرآن وعلّمه وعلّق مصحفاً لم يتعاهده ولم ينظر فيه جاء يوم القيامة متعلّقاً به يقول: يا ربّ العالمين عبدك هذا اتخذني مهجوراً اقض بيني وبينه».
{وَكَذَلِكَ} أي وكما جعلنا لك يا محمد أعداء ومن مشركي قومك كذلك {جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين} أي من مشركي قومه، فاصبر لأمري كما صبروا فإني هاد بك وناصرك على من ناواك.
{وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} على الحال والتمييز {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ} على محمد {القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} كما أُنزلت التوراة على موسى، والزبور على داود، والإنجيل على عيسى جملة واحدة قال الله سبحانه {كَذَلِكَ} فعلنا {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} لنقوّي بها قلبك فتعيه وتحفظه، فإنّ الكتب نزلت على أنبياء يكتبون ويقرؤون، والقرآن أُنزل على نبيّ أُمّي ولأنّ من القرآن الناسخ والمنسوخ، ومنه ما هو جواب لمن سأل عن أُمور، ففرّقناه ليكون أوعى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأيسر على العالِم به.
{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} قال ابن عباس: ورسّلناه ترسيلاً، وقال النخعي والحسن: فرّقناه تفريقاً آية بعد آية وشيئاً بعد شيء، وكان بين أوله وآخره نحو ثلاث وعشرين سنة، وقال ابن زيد: وفسّرناه تفسيراً، والترتيل: التبيين في ترسّل وتثبّت.
{وَلاَ يَأْتُونَكَ} يا محمد يعني هؤلاء المشركين {بِمَثَلٍ} في إبطال أمرك {إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق} أي بما تردّ به ما جاؤوا به من المثل وتبطله. {وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} بياناً وتفصيلاً، ثمَّ وصف حال المشركين وبيّن حالهم يوم القيامة فقال: {الذين} يعني هم الذين {يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ} فيساقون ويجرّون {إلى جَهَنَّمَ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً}.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن خرجة قال: حدّثنا الحضرمي قال: حدّثنا عثمان قال: حدّثنا بشر بن المفضل عن علي بن يزيد عن أوس بن أوس عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أثلاث: ثلث على الدوابّ، وثلث على وجوههم، وثلث على أقدامهم ينسلون نسلا».

1 | 2